تحتدم المعارك هذه الأيام العصيبة بين شعوب مطحونة قامت تطالب بحقوقها في إطار مسيرات سلمية، وأنظمة تقوم على مبدأ الفرعنة، أبت إلا أن تحوّلها إلى حرب إبادة وتنكيل ضد العزّل.
وأهل الحقوق وأصحاب المظالم ذوي البيّنة الجلية، دون أخذ بعين الاعتبار لشرع ولا قانون دولي أو خلقي.
وكان لابد لعلماء الأمة من كلمة تقال أمام الله ،ثم التاريخ، وكالعادة اشتعل أوار الحرب الكلامية والتشكيكية ، بين أحبتنا وسادتنا الأفاضل من بعض تلاميذ علماء الامة الكبار، فمنهم من يؤيد الثائرين ومنهم من يؤيد الحكام.
وأيا كان الرأي الذي يتبناه هذا الشيخ او ذاك، فلا نرى داعي لتطاول أحد على أحد، ففي هذا زيادة في الفجوة وإساءة للدين وتضييعاً للقضايا الأساسية التي اختلفنا عليها.
وليبد كل رأيه دون تجريح واستصغارلغيره، ولقد آلمني كما آلم غيري من محبي العلماء أن تطال هذه الإساءات رموزاً طالما تربينا على فكرهم واحترمنا خلافهم وحملنا لهم التوقير الكامل الصادق ، وعادت بي ذاكرتي إلى زمن مضى ليس بالقصير، عندما كنت أجلس إلى والدي رحمه الله وهو يحدثني عن علماء الأمة ومفكريها ممن أثروا حياة الأمة في العصر الحديث بفكرهم وفقههم وعلمهم.
وكان يقول: يابنية! الأمة تعيش حالة صراع وتحد لهويتها وعقيدتها وثوابتها ومقدساتها وفكرها وقرآنها ،وهؤلاء العلماء هم سيوف الحق التي تضرب في كل اتجاه وميدان، والأمة مطالبة بدراسة فكرهم، وتبني منهجهم.
والوقوف خلفهم بكل ثبات، فهم أحرص الناس على دينهم وأوطانهم ومقدساتهم ونقاء عقيدتهم، وأكثر الناس إنكارا لذواتهم، وسعيا لنهضة أمتهم ،والدفاع عن وجودها ولو كلفهم ذلك ارواحهم.
وصارت جلساتنا غالبا تدور حول هؤلاء الاحبة.، حتى صرت أعرفهم وأحبهم وأقدرهم وأتتبع كتبهم التي كان والدي يقدمها لي ولإخوتي، ولكم حفظنا من شعر الشافعي وتألمنا لمحنة الامام أحمد بن حنبل ، وحلقنا مع أقوال الحسن البصري وأشعاررابعة العدوية ، وتحلقنا حول خطبة الشيخ ابن باز يوم عرفة عبر المذياع أو التلفاز.
وأذكر أن والدي سمح بإدخال التلفاز للبيت فقط من أجل درس الإمام الشعراوي، وكم كنا نلمس الاحترام الجلي والحب الصادق منه ، وهو يطلعنا على عبقرية وموهبة الإمام البنا في بناء الامة، وغرس روح الأمل والنصر فيها، وسعة الإدراك والوعي باحوال المسلمين عند الندوي والمودودي، وعمق الفقه وملكة الاجتهاد عند القرضاوي.
وتقديره لهذا المجتهد العظيم رغم اختلافه مع الشيخ في بعض الآراء الفقهية بكل احترام، ونقاء العقيدة عند البوطي، ورقة العبارة وحسن الديباجة وملامسة الوجدان وروح الثقة بمستقبل هذا الدين العظيم عند سيد قطب، وعمق الفقه عند ابن باز، ورشاقة العبارة ووضوح الفكرة وسداد الرأي في القضايا الاجتماعية والفكرية عند محمد الغزالي.
حتى رسخ لدي أن الأمة فيها أقمارلا تأفل وشموس لا تغيب، وحراس أمناء على منهج الله ، وقد أخذوا أحسن ماأنزل الله من الهدى وأطيب ما ترك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، من جوامع الكلم ورشيد التوجيه، وتتلمذوا على ذخائر النفائس التي تركها لهم السلف الصالح والإخوة الذين سبقوهم بالإيمان من أهل الفقه والعلم.
فامتزجت في فكرهم لآلىء الماضي الرائع بفهمهم العميق وإدراكهم الواعي، وفقههم المعاصر الدال على صلاحية شريعتنا لكل زمان ومكان، ولكم شكرت لوالدي وإلى اليوم أنه طلب مني رحمه الله أن أطلع على كتبهم النفيسة التي تركت إلى اليوم أثرها وشعلتها ونورها في تفكيري، ونظرتي إلى قضايا أمتي وإشكاليات الخلاف وتباينها أحيانابين حملة الافكار الاصلاحية الذين جمعتهم ووحدتهم دعوة الله ، ومحبة الله والغيرة على دين الله .
واعجب حين أسمع هذا أو ذاك يغلظ القول ويبالغ في كيل التهم للآخرين، مدعياً أنه من مدرسة هذا الشيخ أو ذاك بينما لم أجد في أولئك العلماء الدعاة من عادى غيره أو شكك فيه أوحط من قدره، لم أقرأ قولا أو دعوة من عالم لحرق كتب الآخر، ولم أسمع عن داعية مجاهد من السابقين أوحى بقول أو فعل لاتباعه ومحبيه بالتشكيك بإخلاص وغيرة الآخرين على حرمات الله.
ولم ألمس على كثرة ما اختلف عليه شيوخنا من الفرعيات والآليات والمناهج الفكرية أي استخفاف وتحقير وتهميش لأي منهم لأخيه، كما يحدث احيانا ممن يعتبرون أنفسهم تلاميذ اولئك الافذاذ .
وهنا يحضرني مالم يغب عني أبدا قول فقيد الامة العزيز سماحة الشيخ نوح القضاة وقد سألته عن خلاف فقهي في قضية الاحتفال بالمولد الشريف فأجابني (كل المسلمين يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن يختلفون في أسلوب التعبير عن تلك المحبة، فالذين توقفوا عن الاحتفال به رأوا أن من حبهم لرسولهم أن لا يفعلوا شيئاً لم يفعله صلى الله عليه وسلم، والذين يحتفلون بمولده إنما يفعلون حباً به واعترافاً بفضله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدخل في إطار المباح مع رجاء المثوبة من الله ).
وهو رأي معروف له رحمه الله ، فلم يذم من خالفوه ولم يقلل من قيمة فقههم، وقصص التوقير بين أهل العلم المعاصرين كثيرة، وحكايات الود والاعتراف بالمكانة العلمية والخلقية مشهورة.
حين وجد الشيخ ابن باز رحمه الله أنه يختلف مع الشيخ القرضاوي حفظه الله ببعض المسائل الفقهية وأحب أن تلاقي هذه المسائل إجماعاً لدى المسلمين أرسل إليه قائلاً: (ان كتبك لها وزنها وثقلها في العالم الإسلامي، وقبولها العام عند الناس ولذا أتمنى لو تراجع هذه المسائل لتحضى بالقبول الإجماعي عند المسلمين ).
وجاء الرد الودود: ( لوكان من حق الإنسان أن يدين الله بغير ما أداه إليه اجتهاده ويتنازل عنه لخاطر من يحب لكان سماحتكم أول من أتنازل له عن رأيي؛ لما أكن لكم من حب وإعزاز، ولكن جرت سنة الله في الناس أن يختلفوا، وأوسع الله لنا ان نختلف في فروع الدين مادام اختلافاً في إطار الأصول الشرعية والقواعد المرعية.
وقد اختلف الصحابة والتابعون والأئمة الكبار فما ضرهم ذلك شيئاً ، اختلفت آراؤهم ولم تختلف قلوبهم وصلى بعضهم وراء بعض ).
وهنا نعود إلى تلك المدرسة المحمدية، ومن بعدها مدرسة الصحابة والتابعين حين كان واحدهم يتمنى أن يظهر الحق ولو كان في قول أخيه، وأولئك الدعاة المخلصين عندما كان أحدهم يبدأ درسه الشرعي في حلقات العلم والفقه وإخوانه يدعون الله أن يفتح على أخيهم وأن يجري الحق على لسانه سعياً منهم في إعلاء كلمة الله، وإحقاق الحق وإيصاله إلى عباد الله على يد أي منهم، بسلامة صدر وورع صادق.
ومن منا لا يعرف تلك العلاقة الأخوية الرائعة والمودة الجميلة والتوقير الصادق بين الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل وتلك الأبيات الودودة شاهدة على هذا التوقير:
أضحى ابن حنبل حجة مبرورة وبحب أحمد يعرف المستنسك
واذا رأيت لأحــمد مـستنــقـصاً فــاعلم بــأن ســتوره ستــهتــك
ويأتي الرأي المقر بالعلم والفضل من عالم ورع محب في أخيه العالم الورع المحب فيقول ابن حنبل في الشافعي: ( ما من أحد مسّ محبرة ولاقلماً إلّا للشافعي في عنقه منّة ).
فأين هذا الحب في الله والود في جنابه العظيم والاعتراف بالعلم والفضل دون حرج في الصدور ولا خشية على مكانة مما نسمع ونرى من البعض " وهم من فضل الله قليل " من مهاجمة وصراع ، واستخفاف وتشكيك من أحدهم لإخوانه أصحاب دربه وخط دفاعه، وشركاءه في الدفاع عن حمى العقيدة وحياض الأمة.
وإنه لمن المؤلم أن ترى تلاميذ العلماء الأجلّاء وهم يكيلون التهم ويجاهرون بالتشكيك ويبالغون في التجريح لمخالفيهم بأساليب وتعابير وطرح بعيد كل البعد عن أدب الخلاف وروح المودة، بدعوى الصراحة في القول.
والحرص على الشرع وأهله، فيتنكب بعضهم جادة الصواب ويثير الفتنة ويقلب الموازين إلى ضدها، فيشغل النفوس والعقول عما هو أهم وأخطر من الظروف المحدقة بالأمة وعقيدتها وشرعها ومقدساتها وقضاياها المصيرية.
فهل نحن منتهون عن كل ما يفرق ولا يجمع، وينفر ولا يبشر، ويوهن الأمة ويرجعها الى الوراء قروناً؟.
اللهم اجمع كلمة الأمة على شرعك وهديك وما يرضيك عنهاوينزل عليها رحمتك وسكينتك يارب العالمين .
الكاتب: رقية القضاة
المصدر: موقع يا له من دين